من شارع ابوشلبى .. متفرع من اول فيصل
11
محروس من العين
عين الحسود فيها عود ، وعين الرب على الغلابة تحميهم ، وعينى
عليك ياصديقه بنت فايقه بارده من عيون أولاد الحلب الزرقا .. تقول أم جابر الداية
وهى تجلس بين قدمى صديقه فى انتظار وضع حملها العاشر .
يصفّر وجه صديقه ويشتعل صراخها فيملأ أرجاء قبلى البلد .. تربت أم جابر على قدميها وتجرى فايقه مسرعة
تمسك بأناء الماء الساخن يعين ابنتها على وضع المولود .
يتصبب عرق صديقه ويختفى السواد من عينيها فتصرخ فايقه وتهرول
الى وجه ابنتها مخافة ان يخطفها الموت .
تمسك صديقه بكتفى امها وتصرخ فتمسح فايقه عرق ابنتها بطرف
طرحتها السوداء .
يضرب الجنين بقدميه الى العالم الفسيح فتمسكهما أم جابر وتقول
: ساعدينى يابنيتى .. خدى نفسك لتحت ..
احذقى .. يامهون يارب .. انت للغلابه أصحاب العيال .
تضغط صديقه بنفسها علىالبطن فينزلق نصف المولود الاسفل ، وتجفف
فايقه عرق ابنتها وتسحب أم جابر ببطىء شديد .
ينظر جابر الصغير من فوق رأس أمه فتبعده بكتفها وحين ترى فايقه
نوع المولود تجو من الداية أن تتكم الخبر وتردد : حصوه فى عين اللى مايصلى على
النبى ومحروس من العيين ياولد بنيتى .
تكمل أم جابر سحب المولود حتى رأسه فينزل فاتحا عينيه .. رافعا
زراعيه .. ينزلق الصغير على قدمى الداية يتبعه الخلاص .. تتناول أم جابر سكينأ
حاميا .. تفصل الخلاص ثم تربط فتلقفه
الجدة وتلبسه جلبلب بنت من بنات صديقه الخمس حتى لاتفقده الحزينة كما فقدت أربعة
أولاد من قبله وتقول فايقه : العين فلقت الحجر وعينى عليك بارده ويحرسك ربنا
ومايسوهاش فيك ، وأسمته أم جابر محروسا .
خرج الصغير جابر يجرى ليبشر عبد الواحد مبيض النحاس وورائه أمه
تكذّب الخبر وتقول : اكفى على الخبر ماجور وسميه محروسه بين أولاد الحلب يعيش
الوليد .
يفيق جابر وهو ينظر الى وجه محروس الصغير بعد عشر سنوات يحمل
مقطفا نصفه تراب .. يلقيه على التل المجاور لحفرة المجارى العميقة .. يعدو الى
الانفار .. يأخذ فى ملئه ثانية ، ويحمله ويسير .. يتعثر .. تنزلق قدماه .. يقع
المقطف فى الحفرة فيمسك الصغير بطرف سقالة متآكل يأخذه وينزل .. يتعلق ذيل جلبابه
بالطرف المتماسك من السقالة فيستغيث الصغير .. يترك العمال عملهم .. يسارعون الى
محروس يسبقهم جابر زوج أخته محلاهم ويمسك بذيل جلبابه فيخلصه من الخشب ليسبح
الصغير فى قلب البئر الاسمنتى .. يحاول أن يمسك بالجدار الخشن فتتكسر أظافره ..
يعلو نحيب أم جابر بعد فقدها زوجها شحاته الاشرم وابنها عطا الذى يكبر جابر فى
حادث وابور البضاعة السريع الذى لايقف على مراكز تعدد : ولاتنزلونى فى القبر
أبوتعلب ده كله ضلام ولافيه عيال تلعب .
يعلو بكاء الصغير يملأ آذان جابر فيبدأ فى سحب الجلباب بكل
قوته لينخلع قلبه .. يمسك العمال بظهر وكتفى جابر شحاته .. تتسابق الايدى لتصل الى
جلباب الصغير الذى يتلوى داخله .. تعدد أم جابر : ولاتنزلونى فى البقر أبوسلوم ده
كله ضلام ولافيش عيال تقوم .
يمسك جابر بزراعى الطفل ويخرجه .. تعود الدماء الى بدن محروس
.. تتهلل وجوه العمال .. يعاودون العمل والغناء .. يسكت صوت أم جابر فى أذن ابنها
.
مازال العمل فى يومه الخامس من عمر مشروع تغيير مسار المجارى
فى تقاطع شارعى قدروه والخليج القديم .. تتشابك سنون المعاول لتقتلع الاسفلت
والحجارة فيتطاير الشرر .. تمتد السقالات الخشبية .. تجهز الانابيب الواسعة لتحل
محل القديمة .
يتقافز الاطفال بين السابعة والعاشرة يعينون العجانة يخلطون
الاسمنت والرمل والزلط .. يناولون البناءين الطوب يبنون المداخل المربعة لتقاطع
الانابيب ويفرشون المجرى بالاسمنت يعلوه محفات من مسلح تحمل الانابيب الى كل شوارع
الحى الزينى .
ينادى عبد المعطى رئيس الانفار على محروس .. يعطيه دينارا
فيعرف الصغير طريقه .. يتجه الى مقهى الحاج شخرم أمام السينما .. يحضر الشيشة ،
ويتعجب شخرم من مسكة محروس للشيشة .. يمسكها فى المرة الرابعة كالقهوجية القدماء .
يتفادى محروس السيارات .. يضع الشيشة أمام عبد المعطى .. يأخذ
رئيس الانفار نفسا عميقا فيزيد اشعال النار وينفخ الدخان فى وجه الصغير يداعبه ..
يجلسه الى جواره واضعا كفا ثقيلا ممتلأ على كتف صغير أخضر .. يراه جابر فيخاف على
محروس من عينى عبد المعطى الحلبى الواسعة والذى لم يرزق بولد حتى تاريخه .
يعلو صوت جابر شحاته مناديا على الصغير فتسقط كف عبد المعطى الى جانبه ، ويجرى محروس
الى زوج اخته مطأطىء الرأس .. يحمرّ وجه جابر موبخا : العيال كتير ومافيش غيرك ،
والله لأرجعك ابوربريب جنب صدسقه وعبد الواحد قبلى البلد .
يكره محروس الرقص فى الاوانى النحاسية القديمة يمينا وشمالا
تزيل قدماه بالخمرة صدأ الانية مثبتا يديه على الجدار حتى تشققت قدماه وتفحّم لونه
من نار الكور الذى لايطيقه وتتحمله أخواته الكبريات وصديقه امه ، وحين يبدى محروس
هزاله تشفق عليه صديقه وتأخذ مكتنه ليلعب مع اولاد الحلب فيصرخ عبد الواحد فى
وجهها : طول عمره ماحيبقى راجل مادمت مهاه كده .. تصمت المرأة وتبلع ريقها فمحروس
الحيلة فوق الخمس بنات بنوت حتى تزوج جابر منذ ثلاثة أشهر محلاهم بنت عبد الواحد
االكبرى ، وعندما جاء عبد المعطى الحلبى من المدينة الكبيرة الى البلد ليأخذ
أنفارا اختار جابر البناء ليرد جميل شحاته الاشرم الذى علمه الصنعة فتمسك محروس بتلابيب
زوج اخته وأصرّ على السفر معه الى المدينة مدة مشروع المجارى ثلاثة شهور .
جاء محروس يتمسح بجابر فهدأ الكبير ، وحنا صوته يهمس اليه :
أنا عايزك راجل جنبى ماتخليش أولاد الحلب يضحكوا علينا .. يجيبه الصغير بايماءة
ويشرع فى العمل بهمة .
يصير الظل أسفل العمال ويؤذن الشيخ لصلاة الظهر فينادى رئيس
العمال بحلول وقت الغذاء .. يمسح محروس يديه الممتلئتين بخليط الاسمنت والرمل
والزلط على صدر جلبابه ويمدها بقطعة خبز ضئيلة ليقطع جزءا محدودا من قرص الطعمية
ويلقيه فى جوفه .
تقصر يد محروس فتضيع وسط طوفان الازرع والاكف الضخمة لثمانن
عاملا تسعة من الفلاحين والباقى من أولاد الحلب يأتى بهم عبد المعطى كل فجر من
أمام مسجد الزينى .. يفترش الجميع ورق الصحف المشبع بزيت الطعمية والباذنجان
والبطاطس المقلى وأحبار الطباعة .
تدفع الايدى يد الصغير فوق تل تراب المجارى فتتسلل يده النحيلة
بين كومة الازرع لتخطف قرصا كاملا من الطعمية ونصف رغيف ، وينتحى جانبا ليأكل .
يقوم العمال بتنظيف أوراق الصحف وتجفيفها من الزيت وحبر
الطباعة ويسترخون على الرصيف أمام مقهى شخرم يشربون الشاى والدخان .. يمسك جابر
بيد محروس ويضعه داخل عينيه كما أوصته صديقه ، وعندما ينادى عبد المعطى الحلبى
ينفلت الصغير من يد جابر شحاته ويأخذ من عبد المعطى دينارا ليأتى له بورقة معسل قص
سخن ، ويصطحب معه صادق ولد حموده الحلبى .
ينطلق الطفلان سهمان فى قلب الشارع .. يفتشان فى الدكاكين عن
معسل قص سخن .. لايوجد فى الكثير من المحلات فيجاوز الصغيران المنطقة ويصلان الى
التقاطع الكبير .. ينال التعب من الصغيرين .. يجرّان اقدامهما حتى يصلان الى منتصف
التقاطع لتنغلق اشارة المرور عليهما وتفته للاتجاه اللآخر فتنطلق خنزيرة كالبرق
يتجاوزها صادق ولد حموده ، وتلصق محروسا بالارض متسربلا بدمه .. بلتف المارة حوله
وتقف اشارة المرور حتى وصول الشرطة .
ينطلق ولد حموده مسرعا الى جابر يخبره بما حدث فيتبعه العمال
حاملين الفؤوس والمعاول .. يصلون وقد انفضّ المارة من حول الجثة بعد احاطتها
بالحجارة ، ولم يتمكن أحد من شهود العيان أن يأخذ رقما واحدا من لوحة الخنزيرة المعدنية
، وتم تقييد الحادث ضد مجهول .. تنشغل الشرطة مع الواقفين فيحمل جابر جثة محروس ،
ويلفها فى جلبابه ويخفيه العمال عن عيون الشرطة حتى يعود الى الميدان الزينى ،
ويستأجر له عبد المعطى الحلبى سيارة أجرة ويركبه مع الصغير الذى أحبه رافعا يديه
ليودعه ، وتسيل دموعه غزيرة .
تنطلق السيارة الى الجنوب المغطى بالسواد يصاحبها صمت جابر
العميق وعدودة أمه لاخيه عطا شحاته الاشرم ووصية صديقه بنت فايقه بوضع محروس فى
عينيه ليبعده عن عيون أولاد الحلب الزرقا .
قصة قصيرة بقلم / محمود حسن فرغلى
عضو اتحاد الكتّاب
عضو نقابة المهن السينمائيه
mahmoudhassanfarghaly@yahoo.com
العنوان / 18 ش الجمهوريه متفرع من ش
المساكن
خلف مدرسة الشهيد احمد عبد العزيز
بواق الدكرور بالجيزه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق