من على مقهى
بشارع الجمهوريه
اول فيصل .. المساحه
نار الفرن
وقف سعيد خلف زجاج شرفة غرفة شقته الجديده التى اشتراها مؤخرا
بلندن يحتمى بتكييفها من موجة الحر التى راح ضحيتها العشرات من كبار السن فى دول
الجنوب الاوربى .. يطيل سعيد الشرناوى النظر الى الوجوه المحمرّة المثقلة بقنوات
العرق المتدفقة لتغرق الملابس ، وهرولة المارة الى داخل المحلات المكيفة هربا من
موجة الحر القاتل .. يستدعى سعيد وقوفه لفترات طويلة أمام نار الفرن البلدى التى
كان يعمل بها منذ قدومه من سنور الى المدينة القديمة لالتحاقه بالجامعة .. اكتفى
الشرناوى حسين خضر الموظف بادارة المشتريات فى سنور بتعليم ابنه سعيد حتى الثانوية
العامة ليكمل تعليم ستة ابناء اصغر من سعيد وبحث لابنه عن وظيفة فى الادارة التى
يعمل بها لكن سعيد كان يرغب فى مواصلة التعليم فى الجامعة وانتزع من والده
الموافقة بصعوبة بعد أن أكد له عدم تكلفته قرشا واحدا فى دراسته بعد اليوم وسينزل
على اصدقائه الذين يعملون فى فرن المدينة البلدى حتى يوفر لنفسه فرصة عمل يعيش
منها ويكمل تعليمه .
انتقلت مشاعر الحنق على الحر القاتل من ابناء لندن الى سعيد
ابن سنور الذى كان لايشعر بالحر فلقد افقدته نار الفرن التى كان يعمل بها هذا
الاحساس منذ زمن .. يفرغ سعيد من دراسة يومه الجامعى فى تمام الثالثة ليتوجه الى
الفرن ويتسلم الوردية فى الرابعة .. يتجرد من ملابسه الثقيلة حتى لاتؤذى جسده ويقف
أمام نار الفرن المتقدة يرص الخبز على السطح عجينا ليستخرجه بعد قليل ناضجا
فتتلقفه أيادى زملائه الذين ساعدوه فى العثور على هذا العمل .. يظل سعيد يغنى مع
اصدقائه طوال الوردية : الحلوه دى قامت تعجن .. ليسلوا انفسهم وتهون عليهم شدة حر
نيران الفرن ، ويغادر مع انتصاف ليل المدينة .. يسرع الى دروسه فى الغرفة التى تضم
واحدا وعشرين فردا من القادمين من الصحراء الغربية بجوار البحيرة ليتناوبوا النوم
سبعة سبعة كما يتناوبون العمل .
تبرّم سعيد من وقفته فجاء بمقعد وجلس يراقب المارة من خلف زجاج
شقته بلندن .. مرّ عامان على عمل سعيد فى الفرن فرضخ لوصية زميله ممدوح عبد الراضى
وراقب سلوك زملائه فى الكلية ليقدم تقريرا له كل يوم ، وغادر سعيد الفرن الى غير
رجعة لكن مرارة خبزه مازالت تلازمه حتى وهو يتهيىء لدراسته العليا فى لندن .. تزوج
سعيد من بنات المدينة كى يحصل على الاقامة بعد أن قرر أن يهجر الكتابة التى
امتهنها فور تخرجه فى الجامعة والتى كانت السبب الحقيقى وراء سفره خارج القطر .
التحق سعيد بمعهد الحاسب الآلى وحقق فيه تفوقا وواصل فيه
دراسته العليا الى جوار عمله فى المعهد .. علا صوت مارجريت زوجة سعيد الثانية
تدعوه الى الغداء فأخرجته من بحار الذاكرة وأحرقت السيجارة التى كان يدخنها أصابعه
فقرر أن يترك مارجريت التى تركت فى يده علامة أخرى تذكره بالنيران المتقدة التى
لازمته لمدة عامين على أن يتزوج بثالثة من بنات المدينة تمنحه الاقامة وتنسيبه نار
الفرن .
قصة قصيرة بقلم / محمود حسن فرغلى
عضو اتحاد الكتّاب
عضو نقابة المهن السينمائيه
mahmoudhassanfarghaly@yahoo.com
العنوان / 18 ش الجمهوريه متفرع من ش
المساكن
خلف مدرسة الشهيد احمد عبد العزيز
بواق الدكرور بالجيزه